هل يجوز للعالم أن يكتم العلم عن بعض الناس؟ | الشيخ صالح العصيمي
فيخصِّص مُلاحظةً لمداركهم تارةً، فقد يكونُ ممَّا يُدرِكُه قومٌ لحِيطَة أفهامهم وَجَودتِها ولا يُدركه قومٌ آخرون، فيُخَصُّ به قومٌ دون قومٍ لأجل مداركهم، وفي «الصَّحيح» أنَّ عمرَ رضي الله عنه لمَّا سمع بعض النَّاس يقول: ما كانتْ بيعةُ أبي بكرٍ رضي الله عنه إلَّا فَلْتةً، أراد أن يتكلَّم، فنهاه عبد الرَّحمن بن عوفٍ عن ذلك، وأمره أن يؤخِّر كلامه إلى المدينة، وعلَّله بما هو دالٌّ على رجاحة عقول النَّاس حينئذٍ في المدينة من أصحاب النَّبيِّ ﷺ وأنَّ الموسم يشهده الأعراب وأوباشُ النَّاس ممَّنْ لا يُدرِك حقيقة ما تقول.
ثمَّ تارةً يُخصِّص هؤلاء دون غيرهم لأجل حاجتهم، فقد يتحدَّث مع أُناسٍ بأمرٍ ينفعهم في العلم ولا يحتاجه غيرُهم، فتكون من الحوادث الَّتي تتعلَّق ببعض النَّاس دون بعضهم.
وتارةً يُخصِّص بالعلم قومًا دون قومٍ لأجل حِرْصِهم واعتنائهم بالعلم، فلا يستوي البطَّال مَع المجتهد، وأيضًا المجتهدون في ذلك درجاتٌ؛ فيُقرَّبُون على قدرِ اجتهادهم.
وهذا مِن أدب العلم الَّذي كان يرعاه المُعلِّمون فيما سبق، ثمَّ طُوِي إلَّا عند نفرٍ قليلٍ، وإلَّا فالأصلُ ملاحظةُ هذا لأجل منفعتِه الخلقَ، وأنَّ الخلقَ لا تَكْمُل منفعتُهم في العلم إلَّا برعاية هذه القاعدة الَّتي ترجَم عليها البخاريُّ في (كتاب العلم)، وأيضًا ذكرَها الشَّيخ محمَّد هُنَا، وهي في أحاديثَ عِدَّةٍ للنَّبيِّ ﷺ منها هذا الحديث، وكان شيخ شيوخنا مُحمَّد بن إبراهيمَ آل الشَّيخ رحمه الله له درسٌ لا يحضُره إلَّا أربعةٌ، ليس لأجلِ صِلَاتِهم به نَسَبًا، ولا لأجل أموالِهم، ولا لغيرِ ذلك؛ بل لأهليَّتهم في العلم، فلا بدَّ أن يعرف المعلِّم هذا ويعملَ به في النَّاس، ولا بدَّ أن يعرِفه المتعلِّم فيحرصَ على ما ينفعُه من العلم وما يحتاجُه.
فإذا رُعِيت هذه القاعدة في العلم عند المعلِّمين والمتعلِّمين انتفعوا، وإذا لم تُرْعَ وقع الضَّرر؛ فتجد من النَّاس مَنْ يُخاطِب في أمر الله لا تُدركُه كلُّ العقول كلَّ النَّاس، فيتكلَّم به عند كلَّ أحدٍ، وتجد منهم مَنْ يُكلِّم النَّاس ما يفهمونه لكن لا يحتاجونه، وإنَّما يحتاجه أُناسٌ دون أناسٍ، كما لو تكلَّمتُ الآن عن مسائلَ تتعلَّق بالمُبتَعَثين، فإنَّ أحوج النَّاس لها هم أهل الابتعاث، ومَنْ لا شأنَ له بِها فربَّما لا يحسُن مخاطبتُه بذلك.
وكذلك ينبغي أن ينظُر المعلِّم في حِرْص المُتعلِّم واجتهادِه؛ فمَنْ وجَد منه حِرْصًا واجتهادًا وعنايةً ورغبةً وإقبالًا على العلم فلا بُدَّ أن يجتهدَ في نَفْعِه، ومَنْ رأى منه انصِرافًا وتَهاوُنًا فلا يشتغلْ به وإن كان ابنَ مَنْ كان، فإنَّك تُذهِب قوَّتَك فيما لا ينفعُك ولا ينفعه، ولأجل هذا العلماء ما كانوا يُرَاعون إلَّا عناية الطَّالب وحِرْصه، وما عدا ذلك لا يَرْعَوْن فيه شيئًا؛ لأنَّهم يعلمون أنَّ هذا الأمر- وهو العلم - عبادةٌ، فلا بدَّ أن يكون إيرادُها، وحبْسُها، وإيصالُها، ومَنْعُها، وتقريبُها وفْق ما يحبُّه الله ويرضاه، لا وفْق ما يحبُّه النَّاس ويرضَونَه، ولذلك لا يُبَالون بِمُتعلِّمٍ يغضَب لأنَّه لم يُخَصَّص بِهذا؛ لأنَّهم يَرَوْن أنَّ وجهَ مَنْعِه يرجع إلى منفعةٍ تتعلَّق به، كما أنَّ إيصال هذا العلمِ إلى غيره هو لأجل منفعةٍ تتعلَّق به؛ فالعالمُ كوليِّ الأمرِ، يتصرَّف في النَّاس بالمصلحة الرَّاجحة لهم، ولا يُصَرِّفه النَّاسُ حسْب ما يَرَون ويُريدون ويقتِرحون، لا، هذه آراءٌ لهم يبدونَها من بابِ النَّصيحة، لكن هو غير مُلزَمٍ بِها، هو مُلزَمٌ بما يدلُّ عليه الشَّرع، وبما استفاده من الخبرة العلميَّة الَّتي ربَّاه عليها شيوخُه
-
فئة
-
الفئة الفرعية
لم يتم العثور على تعليقات